بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فالقيادة شأنها عظيم وخطير، حتى عدَّ البعض ضعف القيادة من أعظم مشاكل المسلمين المعاصرة، وقال: المسلمون إلى خير، ولكن الضعف في القيادة، وقال الآخر: القيادة شطر القضية، وشطرها الآخر الأمة بمجموع أفرادها.
وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
وحين أنكر الخوارج ضرورة الخلافة، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لابد للناس من إمارة برة كانت أو فاجرة، فقيل: يا أمير المؤمنين، هذه البرة قد عرفناها (وهي ما كانت على منهاج النبوة) فما بال الفاجرة؟، فقال: تُقام بها الحدود، وتأمن السبل، ويخشاها العدو، ويُقسم بها الفيء.
وقد سمعنا عن مدارس تخريج القادة، وتكلم آخرون عن صفات القائد الذي لا يقر ولا يستقر، ولا يعرف كللاً ولا مللاً، ولا يطلب راحة ولا هدوءً دون تحقيق الهدف الذي يصبو إليه، وأن هؤلاء قلَّة في العالم، ولو كانوا كثيرين لأحدثوا في كل يوم انقلاباً، ويذكرون لنا الأمثلة على هؤلاء القادة كنابليون بونابرت، وهتلر، وجيفارا، وماوتس تونج، وكاسترو....
ولا تكاد تسمع إلا أسماءً ليس لله فيها نصيب، وكثرة ممن كتبوا عن القيادة، إذا ذكروا اسم النبي صلى الله عليه وسلم، وأدخلوه في مصاف القادة العظام، فلابد عندهم من تعريته من صفة الوحي والنبوة، ولذلك كان لابد من مراجعة وتدقيق وتمحيص، فما هو مفهوم القيادة، ومن الذي رباهم، وما هي مناهج تربيتهم، فقد لا يصلح ذلك كله لتربية الجنود فضلاً عن القادة.
والميزان في هذا وغيره هو هذا المنهج الكامل الشامل لكل ناحية من نواحى الحياة (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [المائدة: 3]، (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 14]، فموازين القيادة الحقَّة محفوظة في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تتعداها لغيرها، فالله يعلم وأنتم لا تعلمون.
وما ترك الصادق المصدوق-صلوات الله وسلامه عليه-خيراً يُقرب الأمة من ربها إلا ودلَّها عليه، ولم يترك شراً يُباعد الأمة عن الله-عز وجل- إلا حذرها منه، ونهاها عنه وأمرها باجتنابه، وإذا ورد شرع الله بطل نهر معقلٍ، فهل من يعقل.
وما علينا إلا أن نقول: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [البقرة: 285]، نريد قيادة ترضى ربها، وتضع الإسلام نُصب عينها، تأتلف حولها القلوب، وتتحقق على يديها للبلاد والعباد خيرات الدنيا ونعيم الآخرة، وهذا لا يتحقق إلا بمتابعة منهج الأنبياء والمرسلين (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام: 90].
أما أن يلعن القادة الأتباع، والأتباع القادة، ويسفك بعضهم دماء بعض، فلا خير فيهم، وباطن الأرض خير لهم من ظاهرها.
بعث ربنا -جل وعلا- للبشر رسلاً، كانوا هم القدوة والقادة:
انظر في قصة نبي الله نوح عليه السلام واجه أمة كافرة، ظلَّ يدعوها ألف سنة إلا خمسين عاماً، قال لهم: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، وفى هذا خيرهم وسعادتهم في العاجل والآجل، فكانوا يؤذونه حتى يُغمى عليه، فإذا أفاق دعاهم إلى الله وحده، لم تضعف عزيمته، بل واصل الليل بالنهار، ودعاهم سراً وعلانية، وفى النهاية ما آمن معه إلا قليل، والقادة الحقيقيون لا يُعرفون بكثرة الأتباع ولا بقلتهم، ولكن بمقدار قربهم للحق، وانشغالهم بمعالي الأمور وأشرافها، وهكذا كان نبي الله نوح، فمهمته هي أعظم مهمة، وعزيمته تضعف أمامها الجبال.
وقد كان نبي الله إبراهيم عليه السلام أمة وحده (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [النحل: 120، 121]، تعرف ذلك من دعوته لأبيه ومواجهته لقومه، ومناظرته للنمروذ، وتسلميه لأمر الله، وإقامته لدين الله.
وانظر إلى دعوة نبي الله موسى عليه السلام، لقد واجه فرعون والملأ، وصبر على دعوة بني إسرائيل وتعبيدهم لله -جل وعلا-، ارتحل إلى مدين، وقد تجمَّعت فيه معاني القيادة: القوة والأمانة، ولذلك قالت ابنة شعيب لأبيها: (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ) [القصص: 26]، وكان لسان حالها ينطق قبل مقاله: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) [طه: 84].
ونبينا هو سيد القادات، وقائد السادات، دعوته وسيرته وأخلاقه... هي الأسوة والقدوة لتربية القادة، وقيادة الدنيا (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21]، فقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم علماءً ورجالاً وقادةً لا كالقادة، لهم أوفر الحظ والنصيب، مِن واقعه الذي نطق: (والله لو جعلوا الشمس في يميني والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يُظهره الله أو أهلك دونه)، استعلوا على الدنيا وحطامها الفاني، فكانوا سادة وقادة.
يقول أبو بكر الصديق: أينقص الإسلام وأنا حيّ، قاتل المرتدين وقال: والله لو جرت الكلاب بأرجل أمهات المؤمنين ما حللت لواءً عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما صحب الأنبياء مثله رضي الله عنه، يقول عنه عمر: "رحم الله أبا بكر، كان أعرف منى بالرجال".
وتولى عمر الفاروق الخلافة من بعده، وهو القوي في دين الله، سار بالعدل في الرعية، وكان محدثاً، وافق الوحي في أكثر من موضع، وكان يتخوف أن تتعثر شاة بوادي الفرات فيُسأل عنها يوم القيامة لماذا لم يمهد لها الطريق، قال يوماً: أرأيتم إن استعملت عليكم خير من أعلم، ثم أمرته بالعدل, أقضيتُ ما عليَّ؟ قالوا: نعم،قال: لا، حتى أنظر في عمله، أقام بما أمرته أم لا.
وسيرة خالد بن الوليد في قيادة الجيوش وفتوحاته معلومة لدى العدو قبل الصديق، تولَّى يوم مؤتة بعد موت القادة الثلاثة من غير إمرة ففتح الله عليه، وعزله عمر رضي الله عنه عن القيادة فقاتل جندياً، وفتح قنسرين هو وثلة من أصحابه، وكان قادة الروم يسمعون بمجيء خالد فيفرون من المعركة.
ومن تتبع سيجد الكثير من صور القيادة الفذة، يحكون عن هارون الرشيد أنه بعث إلى نقفور ملك الروم يقول له: "أما بعد، فمن هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، فإن الأمر ما ترى لا ما تسمع"، وكان هارون الرشيد يحج عاماً، ويغزو عاماً، ويخاطب السحاب، ويقول: "سيرى أينما شئت أن تسيري فسيأتيني خراجك".
وكان صلاح الدين الأيوبي كالوالهة الثكلى، فقدت وحيدها، يتململ في فراشه ويتقلب فيه، ولا يجد النوم سبيلاً إلى جفنيه، يقول لوزيره ابن شداد:"أما أسر لك حديثاً، إني أتمنى إن فتح الله عليَّ بيت المقدس أن أركب البحر أقاتل في سبيل الله كل من كفر بالله حتى يظهرني الله أو أموت".
نحن بحاجة لإعادة صياغة، وأن نتربى تربية إيمانية تصل الدنيا بالآخرة، والأرض بالسماء، تربية القادة لا تربية العبيد، تربية يُشارك فيها الرجال والنساء، والكبار والصغار، وما فاتنا وضعف فينا، نحاول تداركه في أبنائنا، فنحن لا ندري من الذي سيفتح على يديه بيت المقدس، ومن الذي سيقود الدنيا بدين ربها.
دخل رجل على هند بنت عتبة، وهي تحمل معاوية، فقال لها: "إن عاش معاوية ساد قومه"، قالت: "ثكلته إن لم يَسُد قومه"، وكان معاوية رضي الله عنه إذا نوزع الفخر يقول: "أنا ابن هند".
وكان علي رضي الله عنه يقول: "أنا الذي سمتني أمي حيدرة" (والحيدرة من أسماء الأسد).
ويقولون: وراء كل رجل عظيم امرأة، والمرأة لها دور كبير في تخريج القادة إذا تأسَّت بالصحابيات الفضليات، أما إذا أصبحت همتها في الرقص والغناء، ومتابعة الموضات، وارتياد شواطئ البحر، ودور السينما والمسرح أضاعت نفسها وأضاعت الأمة من حولها، وخلفت أشباه الرجال ولا رجال، شباب قنع، لا خير فيهم، وبورك في الشباب الطامحين.
والفارق كبير بين تربية السادة وتربية العبيد، لقد وُجدت أجيال تربَّت على سموم الفرعونية والبابلية والوطنية والقومية والاشتراكية والديمقراطية، ولم تعرف شيئاً عن دينها، فهل يُقال عن هؤلاء قادة المستقبل وجنود معركة المصير؟!.
إن الواحد من هؤلاء قد لا يصلح لأن يقود نفسه أو بيته فكيف يُطلق عليه وصف القائد والزعيم، وفاقد الشيء لا يعطيه، فالقيادة ليست تسلطاً ولا قهراً ولا جبروتاً، ولكنها أمانة وكفاءة بصيرة بالأمور وعلو همة، صبر وثبات وثقة بنصر الله، وطمأنينة إلى تأييده، نحرص على توافر الشروط الشرعية فيمن يقود، فالخليفة والحاكم ينبغي أن يكون ذكراً حراً عاقلاً عدلاً مجتهداً في دين الله، على معرفة بأمر الحرب، وتدبير الجيوش، وسد الثغور، وحماية بيضة المسلمي،ن لا تأخذه رقة في إقامة الحدود الشرعية...
فالخلافة موضوعة لإقامة الدين وسياسة الدنيا به، والولاية والإمارة تكون للأمثل فالأمثل، ولابد فيها من القوة والأمانة، ولا يجوز الترأس بالجهالة، ولذلك قالوا: تفقهوا قبل أن ترأسوا، وقالوا: تفقهوا قبل أن تسودوا، أي قبل أن تصبحوا سادة وقادة، أما الاكتفاء بمعرفة البروتوكول في تناول الطعام والشراب والمشي، وقراءة كتاب الأمير لميكافيللي، فهذه الأمور لا تصلح لتربية الجنود فضلاً عن تخريج القادة.
ومع حرصنا على الأخذ بالأسباب الشرعية لابد وأن تعلم أنَّ القيادة من قبل ومن بعد فضل من الله يؤتيه من يشاء، فالمؤهلات والقدرة وتذليل الصعاب ومحبة الرعية لقائدها وانقيادها له، كل ذلك محض فضل وتوفيق من الله، وهذه الأمة قد أنيط بها إقامة الحق وقيادة البشرية بأسرها (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران: 110]، (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) [النور: 55].
فإذا كنا قد أصبحنا غثاءً كغثاء السيل، فهذا لا يمنعنا من النهوض والأخذ بالأسباب لوراثة الأرض بالحق والعد، وإقامة خلافة على منهاج النبوة، وهذا يتطلب منَّا إيجاد المسلم بمفهومه الحقيقي، بحيث تتوافر فيه الصبغة الإلهية والثبات على الحق، ومعاني العزة والمجاهدة والبصيرة والأوبة إلى الله وإدراك الغاية من الحياة، وغير ذلك من المعاني التي تؤهل المسلم لأن يناطح السحاب، تهتز الجبال ولا تهتز معاني اليقين في نفسه، يصنع كما صنع ربعي بن عامر عندما دخل على رستم قائد الفرس فسأله: من بعثكم؟، فأجابه ربعي: "ابتعثنا الله لنُخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام".
ولو استقامت الموازين لعلمنا أن القيادة بحق كانت لربعي المغمور لا لرستم المشهور، فالقائد يجب أن يُخلص عمله لله ويتواضع لجنابه سبحانه.
والتنازع على القيادة يُفسد النوايا، وتضيع به البلاد والعباد، فالمركب تستقر في قعر المحيط إذا بويع لخليفتين، وحسبك أن تطيع قائدك في غير معصية الله، حتى وإن كنت أهلاً للقيادة والإمارة، فمن الجائز إمامة المفضول للفاضل، والخلاف شر كله، ولا تُبالي إذا وضعوك في المؤخرة، أو خفي حالك على الخلق، فأنت ممن يتعامل مع الله.
قيل عن عمر بن عبد العزيز-رحمه الله-: إنما أدخله في العبادة ما رأى من ابنه عبد الملك، وكان من الصلاة والقوة في دين الله بمكان.
والدال على الخير كفاعله، ومن نفس المنطلق قد تجد مخايل النجابة وعلامات القيادة المبكرة في ولدك أو في غيره، فتعاهده، كقوله للصبيان: من يكون معي؟، وتعالوا:أكن أميركم، ومن ذلك ما حكاه نضراً الهلالي قال:كنت في مجلس سفيان بن عيينة، فنظروا إلى صبى دخل المسجد، فتهاونوا به لصغر سنه فقال سفيان: (كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ) [النساء: 94]، ثم قال: يا نضر لو رأيتني ولي عشر سنين، طولي خمسة أشبار، ووجهي كالدينار، وأنا كشعلة من نار، ثيابي صغار، وأكمامي قصار، وذيلي بمقدار، ونعلي كآذان الفار، وأنا أختلف إلى علماء الأمصار، مثل الزهرى وعمرو بن دينار، أجلس بينهم كالمسمار، محبرتي كالجوزة، ومقلمتي كالموزة، وقلمي كاللوزة، فإذا دخلتُ المجلس، قالوا: أوسعوا للشيخ الصغير، أوسعوا للشيخ الصغير.
وعلى كل حال فمن وجد توفيقاً وتسديداً فالله يوفقه (وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود: 88]، وعليه أن يزداد طاعة وعبودية لله، ويؤدي شكر النعمة التي امتن بها سبحانه عليه (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7]
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين