ابراهيم جمعه
عدد المساهمات : 50 نقاط : 26900 تاريخ التسجيل : 19/03/2010
| موضوع: امبراطوريه الشعراء للشيخ عائض القرنى الأحد 25 أبريل 2010, 6:00 pm | |
| في بلاط الإمبراطور الحمد لله حمداً كثيرا طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضي، واصلي وأسلم علي نبينا محمد وعلي آله وصحبه ومن بسنته اهتدي. أما بعد : فتحية طيبة يا أبا الطيب فقد حسونا كاس سحرك حتى ثملنا بياناً، أما أبياتك فالنجوم ضياء ورفعة، وأما قصائدك فالحدائق بهجة ونضرة . من أين جئت يا أستاذ القافية ، وكيف وصلت يا فيلسوف الإبداع. لقد عاش قبلك وبعدك آلاف الشعراء الذين ملؤوا الفضاء ضجيجاً، والكون صياحاً، ثم ماتوا وماتت أصواتهم، وبقيت أنت منشداً للدهر عازفاً علي نياط القلوب كما قلت أنت: وما الدهر إلا من رواة قصائدي إذا قلت شعراً اصبح الدهر منشدا لقد عرفتك من ثلاثين سنة فكنت معي حضراً وسفراً النبي صلي الله عليه وسلم أتمثل أبياتك ، انشد قصائدك ، أحفظ ديوانك، ولكن ذنبك أنك زهدتني في غيرك من الشعراء . وعذرتك أنك سطعت ولمعت وأبدعت. يا أبا الطيب، أخذنا من قصائدك ما كان شاهداً ومثلاً وحكمة وعبرة، وتركنا غلوك وهجاءك وصخبك، وعسى الجيل أن يعود للبيان العربي ليفهم كتاب ربه وسنة نبيه صلي الله عليه وسلم حق الفهم، لأن الوحي هو المقصود بالتدبر والتأمل والدراسة: أما ما سواه فوسائل وأدوات فحسب: قواصد كافور توارك غيره ومن قصد البحر استقل السواقيا د. عائض القرني المتنبئ عائض القرني حسبك الله لم تزل تتحـدا ما رهبت المنون أو هبت جندا أنت كالدهر والقوافي ليــال تبتني بالقريض في الناس مجداأرجفوا : مات! قلت لا أموت قالوا: قد مضي، قلت بل زماني تبدانبشوا فيك عبقرياً أديباً حــركـــوا فيك مارداً بل ألدااشعلوا منك في الدياجي نجوما أحرقوا فيك غيظهم فاستبــــداكلهم قاتل وكل الضحايــا أنت يا مالئ الفافي جــــداأنعلوا خيلك الأفاعي فهابت كل أفعى ذاقت من السم وردااصلتوا في عيونك الموت سيفا أغمدوا في حشاك رمحاً معداكيف أفلت والصحاري زؤام والمنايا خرس وقد جئت فرداأي ليل ركبت؟ أين الأعادي فتهم يا عظيم معني وبعداأنت في الشام أم وصلت عماناً أم وردت العراق أم زرت نجداعند من أنزلوك عند ابن موسى أم سعيد وابن العميد المفدى؟عند كافور اصبح العبد حرا أم علي ذا الحر أصبح عبــداأم تريد الحياة أم أنت صب يعشق الحسن كاتماً ما تبــدىهل رأيت القرود حولك أسدا؟ أم تخليت طلعة الليث قردا؟وعلي من تلقي القريض شجياً وإلي من تهدي من الشعر وردا؟أنت يا ملبس السلاطين عـزا أنت يا كاسي الصعاليك برداأنت يا مشعل الزمان أرحنا قال دعني أذكيه برقا ورعدا!عشت بالعز مؤمنا لا يداجي ومن الذل كافــراً مــرتدا!بصر العمي اسمع الصم شعرا علم الضاد تركماناً وكردابك ينوي الممات أن يتعشى قال: كلا أنا به أتغدي!تلبس الثور مطرفاً وهو اعمي كى تراه اصمى وأطغي وأردا!تحرق النذل بالقريض فيبقي خائباً خاسراً حقيراً مـــردالم تبال ركبت أدهم ضاف أو قطعت الصحراء سعيـــاًأو لقيت الخطوب في ثوب هول أو حضنت الأيام عزاً وسعداأو ملت القلوب فيك ابتهاجاً أو نقشت الصدور غلاً وحقدااترجي وصال أهيف غر قال: كلا طلقت سلمى ودعداكل شبر مصائب تتلظى كسيوف بواتر بل أحداً تطلب الثأر في حنايا عظيم قد اعناقها بجنبية قداأنت يا بن الحسين اكبر لغز في بلاط الملوك تروى وتهديكيف أنهي الخطاب فيك وأجلو عن معانيك؟ قال لي : كيف تبدا؟ وردة من دم المتنبئ للشاعر / عبد الله البردوني من تلظي لموعة كاد يعمي كاد من شهرة اسمه لا يسميجاء من نفسه إليها وحيداً رامياً اصله غباراً ورسماحاملاً عمره بكفيه رمحاً ناقشاً نهجه علي القلب وشماخالعاً ذاته لريح الفيافي ملحقاً بالملوك والدهر وصما***ارتضاه أبوه السيف طفلاً أرضعته حقيقة الموت حلمابالمنايا أردي المنايا ليحيا وإلي الأعظم احتذي كل عظمي***عسكر الجن والنبوءات فيه وإلي سيف( قرمط) كان ينمي***البراكين أمة، صار أما للبراكين للإرادات عزماً( كم إلي كم تفني الجيوش افتداء لقرود يفنون لثماً وضما)***ما اسم هذا الغلام يا بن معاذ؟ اسمه ( لا) : من أين هذا المسمي؟إنه أخطر الصعاليك طراً إنه يعشق الخطورات جما***فيه صاحت إدانة العصر: أضحى حكماً فوق حاكميه وخصماقيل: أردوه، قيل : مات احتمالاً قيل: همت به المنايا ، وهماقيل: كان الردى لديه حصاناً يمتطيه برقاً ، ويبريه سهماالغرابات عنه قصت فصولاً كالتي أرخت (جديساً) و( طمسا)***أوراق الحبر كالربى في يديه أطلعت كل ربوة منه نجماًالعناقيد غنت الكاس عنه الندي باسمه إلي الشمس أومى***هل سيختار ثروة واتساخاً؟ أم تري يرتضي نقاء وعدما؟ليس يدري، للفقر وجه قميء واحتيال الغني من الفقر أقماربما ينتحي ملياً، وحيناً ينحني، كي يصيب كيفاً وكماعندما يستحيل كل اختيار سوف تختاره الضرورات رغماليت أن الفتي ـ كما قيل ـ صخر لو بوسعي ما كنت لحماً وعظماهل سأعلو فوق الهبات كمياً؟ جبروت الهبات أعلي وأكمي***أنعلوا خيلة نضاراً ليفني سيد الفقر تحت أذيال نعمي( غير ذا الموت أبتغي، من يريني سيد الفقر تحت أذيال نعميأعشق الموت ساخناً، يحتسيني فائراً، أحتسبه جمراً وفحماأرتعية، أحسه في نيوبي يرتعيني ، أحس نهشاً وقضماوجدوا القتل بالدنانير أخفي للنوايا، أمضي من السيف حسماناعم الذبح، لا يعي أي راء أين ادمي، ولا يري اصمييشتري مصرع النفوس الغوالي مثلما يشتريه نبيذاً ولحما يدخل المرء من يديه وينفي جسمه من أديمه وهو مغمييبتدى مبغي هنا، ثم يبدو معبداً ها هنا، وبنكين ثمايحمل السوق تحت إبطيه، يمشي بايعاً شارياً، نعياً ويتمامن تداجي يابن الحسين؟ ( أداجي أوجهاً تستحق ركلا ولطماكم إلي كم أقول ما لست أعني؟ وإلي كم أبني علي الوهم وهماً؟تقتضيني هذي الجذوع اقتلاعاً أقتضيها تلك المقاصير هدما)***يبتدي يبتدي، يداني وصولاً ينتهي ينتهي ، ويدنو ولماهل يري غير ما تري مقلتاه؟ ( هل يسمي تورم الجوف شحما)؟***في يديه لكل سينين جيم وهو ينشق: بين ماذا وعمالا يريد الذي يوافيه، يهوى أعنف الاختيار: إما ، وإماكل أحبابه سيوف وخيل ووصيفاته : أفاع وحمى( يا ابنة الليل كيف جئت عندي من ضواري الزمان مليون دهما؟الليالي ـ كما علمت ـ شكول لم تزدني بها المرارات علما)***أه يابن الحسين:ماذا ترجي؟ هل نثير النقود يرتد نظما؟بحفيف الموز ترمي سيوفاً عاريات: فهل تحديث ظلما؟كيف تدمي ولا تري لنجيع حمرة تنهمي رفيقاً وشماً؟كان يهمي النبات والغيث طل فلماذا يجف والغيث أهمي؟الأن الخصاة أضحوا ملوكاً زادت الحادثات، وازددن عقما؟***( هل اقول الزمان أضحي نذيلا؟ ربما قلت لي : متي كان شهما؟هل اسمي حكم الندامي سقوطاً؟ ربما قلت لي : متي كان فخما؟أين ألقي الخطورة البكر وحدي؟ لست أرضي الحوداث الشمط أماأبتغي يا سيوف ، أمضي وأهوي اسهماً من سهام ( كافور) أرمي)***شاخ في نعله الطريق وتبدو كل شيخوخة، صبي مدلهماكلما انهار قاتل ، قام أخزي كان يستحلف الذميم الأذماهل طغاة الورى يموتون زعماً ـ يا منايا ـ كما يعيشون زعما؟أين حتمية الزمان؟ لماذا لا يري للتحول اليوم حتما؟هل يجاري، وفي حناياه نفس أنفت أن تحل طيناً محمي؟( ساءلت كل بلدة: أنت ماذا؟ ما الذي تبتغي؟ أجل واسمىغير كفي للكاس، غير فؤادي لعبة في بنان (( لميا)) و ((ألمي))***كيف يرجو أكواز بغداد نهر قلبه وحده من البحر أطمي؟كان أعلي من ( قاسيون) جبيناً من نخيل العراق أجني وأنميللبراكين كان أماً: أيمسي لركام الرماد خلاً وعما؟***( حلب يا حنين، يا قلب تدعو لا ألبي ، يا موطن القلب مهما..اشتهي عالماً سوي ذا، زماناً غير هذا وغير ذا الحكم حكماأين أرمي روحي وجسمي، وأبني لي، كما أستطيب روحاً وجسما؟)***خفف الصوت للعداء ألف سمع : هل ألاقي فدامة القتل فدما؟يا أبا الطيب اتئد: قل لغيري : أتخذ حيطة : علي من ومما؟كلهم ( ضبة) فهذا قناع ذاك وجه سمي تواريه حزما( الطريق الذي تخيرت أبدي وجه غتمامه أريد الأتمامت غماً: يا درب (( شيراز)) أورق من دمي كي يرف من مات عما***أصبحت دون رجله الأرض، أضحي دون إطلاق برقه، كل مرميهل يصافي؟ شتي وجوه التصافي للتعادي وجه وإن كان جهما أين لاقي مودة غير أفعي؟ هل تجلى ابتسامة غير شرمي؟***أهله كل جذوة كل برق كل قفر في قلبه وجه ((سلمي))تنمحي كلها الأقاليم فيه ينمحي حجمه ليزداد حجماتحت أضلاعه (( ضفار)) ورضوي وعلي ظهره (( اثينا)) و(( روما))يغتلي في قذالة (( الكرخ)) يرنو من تقاطيع وجهه(( باب توما))***التعاريف تجتليه وتغضي التناكير عنه ترتد كلميكلهم يأكلونه وهو طاو كلهم يشربونه وهو أظماكلهم لا يرونه وهو لفح تحت أجفانهم من الجمر أحميحالو، حصره فأذكوا حصاراً في حناياهمو يدمي ويدميجرب الموت محوة ذات يوم وإلي اليوم يقتل الموت فهما قصتي مع البيان كنت في الصبا اعجب بالكلمة الجميلة، أنصت لها. أتمتع بحسنها، يشدني جرسها، يخلبني سرها، يدهشني أسرها، اسمع الكلمة البليغة من النثر والشعر فأجد لذة في سماعها ، وتغمرني فرحة في تأمل بيانها، فالبيان سواء كان قرآناً أو حديثاً أو شعراً أو رواية هو منهي الإبداع لدي، وأحياناً أتناول كلمات من القرآن فاٌقرأ ما كتب عنها المفسرون والبلاغيون ثم أعود بنفسي متأملاً متفكراً متدبراً، فأجد لها في أعماقي معاني لا أيستطيع أحياناً أن أعبر عنها بلساني، وكم هي الآيات التي هزت كياني، وحركت أشجاني، وزلزلت أركاني، وقد تكون هذه الآيات وعظاً، أو قصصاً، أو حواراً، أو خطاباً، أو وصفاً، المهم أنني أعيش مواقف من التأثر لروعة البيان وجمال الخطاب. وفي عام 1400هـ كنت مع سماحة الشيخ الإمام العلامة / عبد العزيز بن باز في جازان لافتتاح مخيم دعوى هناك، وبدأ الحفل بآيات من أول سورة فصلت، قارئها طالب جميل الصوت، حسن الأداء،رخيم النغمة، وكنت قريب عهد بقراءة السيرة، وقصة السورة؛ فتأثرت وأنا جالس بين الناس وأصابني اندهاش ، ودعيت بعدها بفقرتين لإلقاء قصيدة؛ فلما ألقيت ما يقارب عشرة أبيات وكانت أربعين بيتاً لم أستطيع المواصلة، وشعرت بتعب وإعياء، فقطعت الإلقاء فجأة وجلست، وكان الموقف لافتاً للنظر، وما ذاك إلا لما بقي في نفسي من تأثر بالغ أثر علي مشاعري وعواطفي. وصلينا في الحرم المكي صلاة التراويح فرفع الإمام صوته بقوله تعالي: )فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِك)(محمد: الآية19) ، وارتج الحرم بالصوت، ولكنه بلغ الأعماق فلا أدري هل أعجب من هذا البيان الآسر، أم من هذه الفخامة والإشراق والإعجاز، أم من هذا الصدق واليقين والعدل؟! كنت اقف علي بعض الجمل من القرآن فأفصلها كلمة كلمة كما يفصل الدر من عقده، والجوهر من خيطه، وقفت مرة عند قوله تعالي: )وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ) (قّ:10) فتأملت كلمة( باسقات) وجمالها، فإذا لها مدلول غير مدلول طويلات؛ لأن الباسق الطويل في حسن ورواء، وكذلك كلمة : (طلع) كيف اختارها من بين كلمة ثمر وحب ورطب وبسر ونحوها وكلمة: ( نضيد) وما فيها من جمال ودلالة وإشراق يذكرك بالعقد الزاهي من الجوهر. وقرأت قوله تعالي عن كتابه: (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت:42) فهزني هذا الكلام الجليل، ثم عدت إلي مصطفي صادق الرافعي، فإذا هو مندهش لهذه الآية ، مأسور لجزالتها وفصاحتها . ومرت به آية: ) فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ )(سـبأ: الآية19) فوقف متأملاً صامتاً منبهراً من هذه الإجادة والإيجاز والإعجاز، ثم طالعت مذكرات الإبراهيمي الجزائري فإذا هو يدبج أروع الكلام عن هذه الآية، ويعلن اندهاشه من هذا الكلام المشرق السامي الراقي. وعشت مع سورة الجن، فكأني في عالم الجن والأنين، يبهرني اللفظ وياسرني المعني، وتذهلني الفصاحة، ويهزني الإعجاز ، ثم أعذر الجن وهم يقولون : (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً)(الجـن: الآية1)، وأقرأ كلام سيد قطب فإذا هو يعيش تلك اللحظات من الانبهار والاندهاش لهذا الكلام وكم هي الآيات التي أوقفتني وسلبت لبي، وذهب بي الإعجاب بها كل مذهب، وتمنيت أن عندي من البيان ما يعبر عما يدور بخلدي من معان كامنة مستورة في الحشا، وكنت أردد آية: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (هود:44) ، فأعيد النظر فيها وأعرضها علي بعض الأصدقاء ليشاركني هذه المتعة ، ثم أجد عبد القاهر الجرجاني يبسط الكلام عن إعجاز هذه الآية ووجه البيان والبديع فيها . ووقفت عند آية : (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء)(المائدة: الآية64) ، فعجبت لقوة هذا الحديث الذي ينسق قلاع الباطل، ويحطم أسوار الزور، ويجتث شجرة العناد والتمرد. وطالعت عالم البيان في حديثه صلي الله عليه وسلم وتأملت أحاديثه العذاب الرطاب، وكلامه الجزل الفخم وذهبت مع الشعر فحفظت منه الكثير ورويت الكثير، ولكن الذي أحفظه هو الذي يعجبني ويطربني. وسافرت مع المحدثين، والنفلة والمؤرخين، والمفسرين، وأهل اللغة والأدباء، أقف مع الرائع الجميل من كلامهم وأعيد القطعة الماتعة من كلام الذهبي، والوقفة الصادقة لابن تيمية والمقولة المؤثرة لابن القيم، والمداخلة الخلابة للجاحظ، والعرض الشائق لابن خلدون ونحوهم، وأكثر ما يشدني في ذلك البيان وحسن السبك، وجمال اللفظ ، وقوة المعني وسطوع البرهان. جلست مع صديق لي فقرأت عليه هذه القطعة للجاحظ إذ يقول : جعلا فداك، وإنما أخرجك من شيء إلي شيء وأورد عليك الباب بعد الباب، لأن من شأن الناس ملالة الكثير واستثقال الطويل؛ وإن كثرت محاسنه، وجمت فوائده، وإنما أردت أن يكون استطرافك للآتي قبل أن ينقضي استطرافك للماضي، ولأنك متي كنت للشيء متوقعاً، وله منتظراً، كأن أحظى لما يرد عليك، وأشهى لما يهدي إليك وكل منتظر معظم ، وكل مأموم مكرم، كل ذلك رغبة في الفائدة، وصبابة بالعلم، وكلفا ًبالاقتباس، وشجاً علي نصيبي منك، وضنناً بما أؤمله عندك ومدارة لطباعك واستزاده من نشاطك، ولأنك علي كل حال بشر، ولأنك متتاهي القوة مدبر. كررت هذه القطعة الفائقة ،فكأنني أجد طعمها في فمي قطعة من الشهد ، وزلالاً بارداً من معين صاف، وبقيت أقلبها في عيني تقليب الدرة في اليد، والفكرة في القلب، والخاطر في الضمير، وأنت لو تأملت هذه القطعة النثرية الفائقة للجاحظ لوجدتها في أوج البيان، وقمة الفصاحة بعيدة عن التزويق والتكلف ، سليمة من التبذل والرعونة، ساحرة فاتنة. وإنما ذكرت هذا مثلاً ، وإلا فكم من مقالة وقطعة وقصيدة توقف اللبيب وتدهش الفطن من حسنها وروعتها. أسمع الخطيب والواعظ والمعلم والمفتي والشاعر والمحاضر فلا يملك إعجابي إلا المتفرد في بيانه ، المتوحد في اختيار مفرداته ، واصطفاء كلماته، وانتقاء جملة، أما الهذر والحشو والإكثار النبي صلي الله عليه وسلم فكل يستطيعه وهو المبذول المملول المرذول المدخول!. حدثني أحد الأدباء : أن ( هتلر) أراد أن يلقي خطاباً للعالم يوم زحفت جيوشه غلي موسكو، يملأ به المكان والزمان ،فامر مستشاريه باختيار أقوس وأجمل وأفخم عبارة يبدأ بها خطابه الهائل للعالم، سواء كانت من الكتب السماوية، أو من كلام الفلاسفة ، أو من قصيد الشعراء، فدلهم أديب عراقي مقيم في ألمانيا علي قوله تعالي: )اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) (القمر:1) فاعجب ( هتلر) بهذه الآية وبدأ بها كلمته وتوج بها خطابه.قف مع هذه الآية ورتلها وتأملها لتجد فخامة في إشراق، وقوة في إقناع، وأصالة في وضوح. وقرأت مقالة لأديب يهاجم أديباً آخر سرق له مقالات ونسبها إليه، فجعل عنوان هذه المقالة قوله تعالي : ( أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ)(يوسف: الآية70) فبقيت مع العنوان متأملاً مكرراً معجباً ، وأهملت المقالة!؛ ولهذا فإنك تعذر كل من أسره القرآن واستمال قلبه وسيطر علي روحه، حتى إن أحد العرب صلي خلف الرسول صلي الله عليه وسلم فسمعه يقرأ: )يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً) (الطور:13) فكاد قلبه أن يطير ، وسمع آخر قوله تعالي: )أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) (الطور:35)فذهل وتحير من بلاغتها وجمالها، وهذا الذي حمل الوليد بن المغيرة ليصبح صيحة المعترف ويقول: (( إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلي عليه). إن صرعي الشبهات لا يعجبهم القرآن، وإن عبيد الشهوات لا يهزهم هذا الكتاب العظيم؛ إن القرآن يعجب سليم الفطرة، بريء الضمير، حي القلب، مشبوب العاطفة، متوقد الذهن، صافي القريحة، فهذا أرض طيبة خصبة لغيث البيان ومطر الفصاحة العذب. مرت بي مئات المقالات والقصائد؛ فوجدتها ثقيلة وبيلة لا تستحق الاهتمام والمطالعة، مهلهلة السبك ضعيفة البناء، ركيكة اللفظ ، ماتت قبل أن تولد، ودفنت قبل أن تحيا جزاء وفاقاً، وبقيت الكلمات الآسرة الساحرة الساطعة خالدة خلود الحق، لامعة لموع الفجر، جميلة جمال الإبداع. طالع كتاب( صيد الخاطر) لابن الجوزي، وكرر كلماته، وأعد جملة لتدرك سر شيوع هذا الكتاب وذيوعه وخلوده؛ إنها الفكرة الرائدة في ثوب جميل، والتوجيه الصادق في قالب بديع، والمعني العميق في لفظ بهيج مشرق، يقول ابن الجوزي في كتاب طيب الذكر(( إلا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات يحفظ الله بهم الأرض ، بواطنهم كظواهرهم بل أجلي، وسرائرهم كعلانيتهم بل أحلي ، وهممهم عند الثريا بل أعلي ، إن عرفوا تنكروا ، وإن رئيت لهم كرامة أنكروا فالناس في غفلاتهم، وهم في قطع فلاتهم، تحبهم بقاع الأرض ، وتفرح بهم أفلاك السماء، نسأل الله عز وجل التوفيق لاتباعهم، وان يجعلنا من أتباعهم)).. انتهي كلامه ولكن لم ينته أثره ولا نوره ولا أسره ولا جماله، إن البحث عن البيان في الكلام متعة؛ لا يعادلها متعة ارتياد الروض الأخضر، والخميلة المائسة ولا يعادلها مجلس أنس، أو رحلة سياحة ، وقد وصف أحد البلغاء كلام أحد الأدباء فقال: إذا تحدث فكأن السحر دب في جسمك، وهذا معني قوله صلي الله عليه وسلم : (( إن من البيان لسحراً))، فهو يفعل السحر في خلبه للب السامع ، يقول ابن الرومي: وكلامها السحر الحـلال لوانه لم يجن قتل المسلم المتحرزإن طال لم يملل وإن هي أوجزت ود المحدث أنها لم توجـز والكلمات الجميلة هي التي نقشت في أذهاننا وكتبت في قلوبنا، فبقيت وعاشت : أقرا كلام علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ فأكرره كأنني اشرب زلالاً بارداً حلواً علي ظمأ في قيظ، حتى عقد له ابن كثير في تاريخه فصلاً عنوانه: باب في كلماته الحاصلة التي هي إلي القلوب واصلة، ولما افتتح البخاري كتاب الرقاق من صحيحه ذكر قول علي: (( إن الدنيا ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة ارتحلت مقبلة، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب بلا عمل)) فأنظر إلي هذا الإيجاز مع قوة المعني وحسن الفواصل ، وبراعة الإيراد، وجمال العرض. ولما بدأت في مطالعة ( الكشاف) للزمخشري بدأ ليصلي علي النبي صلي الله عليه وسلم فقال: والصلاة والسلام علي حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل...إلي آخر الكلام الجزل الفخم ، ولحسنه حفظته. عن أول طبعة لمصنف ابن أبي شيبة طبعت في الهند، قدم لها أحد علماء الهند مقدمة باردة سامجة متفككة متهالكة، حتى صارت مصدر نادرة في المزاح، وما هذا إلا لأن الرجل يكتب بغير لسانه، وما غاص في مفردات اللغة العربية، وما تمتع بجمالها فهو غريب، وإنك لتسمع العالم يفتي، والمعلم يدرس، والخطيب يتحدث، والشاعر يلقي، فتعرف قوة هؤلاء من ضعفهم وبيانهم من عيهم من أول وهلة؛ لأن الكلام الباهر الجميل الساطع لا يخفي حسنه، ولا يجهل قدره. إن أساطين البيان حفروا كلماتهم في ديوان التأريخ، وذاكرة الأجيال لأن الإبداع له خلود، والتفوق له ذيوع، والتفرد له امتياز. قال أحد الخلفاء لبليغ: ما البلاغة؟ قال هي: أن لا تبطئ ولا تخطئ. قال مثل هذا؟ قال مثل هذا؛، وانظر كيف أوجز وأعجز . فما أسرع جوابه وأحسن صوابه. ومدح رجل علياً ـ رضي الله عنه ـ وكان يبغض علياً ـ فقال له علي: أنا فوق ما في نفسك ودون ما تقول، وقال له رجل : لماذا اتفقت الأمة علي الشيخين، واختلف عليك، قال لن رعيتهم أنا وأمثالي ، ورعيتي أنت وأمثالك ! فقل لي بربك أي جواب هذا الذي كأنه أعده من شهر. لقد حرمنا متعة البيان بسبب هذا الهذيان، كلام طويل ثقيل وبيل، وتكرار وتبذل، حتى إنك لتسمع الخطيب يتكلم ساعة كاملو ولو جمع ما قال في خمس دقائق لأحسن إلي نفسه وإلي السامعين. إن السيلان الخطابي، والثرثرة في الحديث شيء ، والبيان والبلاغة شيء آخر ، إن البيان هو أن تصيب المحز وتشفي النفس وتبلغ حجتك.ولولع النفس بالبيان ، وتعلق القلب بالفصاحة؛ سافرت مع أبى الطيب المتنبئ لجمال شعره وروعة بيانه،وجزالة لفظه، وبراعة عرضه، وأما مبادئه ومذهبه في الحياة فلنا معه حديث آخر في هذا الكتاب. | |
|
ابو اسامه Admin
العمل/الترفيه : دعوه الناس الى الخير عدد المساهمات : 569 نقاط : 28159 تاريخ التسجيل : 17/03/2010 العمر : 43 الموقع : https://sabahe.ahladalil.com/ المزاج : الحمد لله وكفا
| موضوع: رد: امبراطوريه الشعراء للشيخ عائض القرنى الأحد 25 أبريل 2010, 6:05 pm | |
| | |
|