كتبه/ سعيد عبد العظيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فمن الأهمية بمكان أن يبدأ الإنسان بنفسه وقدرَ استطاعته في إبراء ذمته، وتخليص رقبته، والقيام لله -تعالى- بحقه وتَوْفِيَة الحقوق لأصحابها في الزمان والمكان الذي هو فيه، دون تلكؤٍ أو تباطؤ؛ فالرويَّة في كل أمر خيرٌ إلا ما كان من أمر الآخرة.
فلا يكفي أن يعرف الإنسان قيمة الأخوة الإيمانية وقدر الوحدة الإسلامية ثم هو لا يتحرك في الاتجاه الذي يحقق هذا المطلب الشرعي، ويكتفي بمطالبة الآخرين فضلا عن أن يكون معول هدم لصرح الوحدة ولمعنى الأخوة، مما يفرغها من محتواها وبحيث تصبح عبارة عن شعارات وهتافات، لا واقع لها ولا رصيد.
رأى أحد العلماء أخا له يجمع مسائل العلم ولا يعمل بها فقال: "يا هذا إذا أفنيت عمرك في طلب السلاح فمتى تقاتل به"، وقالوا: "العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل"، والسلوك مرآة الفكر.
فلا يكفي أن نتعرف على معاني العقيدة ومسائل الأخلاق دون عمل بمقتضاها بحيث تصبح سلوكاً وصبغة، قد تحفظ ما جاء في "معارج القبول"، و"شرح الطحاوية"، و"العقيدة الواسطية"، ونحن أحوج إلى ترجمته إلى توحيد عملي سلوكي، وكذلك الأمر بالنسبة لمعنى الأخوة الإيمانية والوحدة، فلا يكفي أن نردد هذه المصطلحات دون العمل بمقتضاها.
لابد من منهج إيماني لتحقيق معاني الأخوة والاتحاد، وأن تتحقق بمثل ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام -رضي الله عنهم-، فهذا هو المنهج الذي رضي به ربُّنا، ويلتئم به شملنا، وتتوحد به كلمتنا، ونكون به يدا واحدة على عدو الله وعدونا، بعكس ما لو تعددت مذاهبنا واختلفت فرقنا وطرائقنا وعقائدنا، فهذا شيعي، والثاني صوفي، والثالث معتزلي، وهذا ينادي بالاشتراكية، والثاني ينادي بالديمقراطية، هذا يفتخر بالوطنية، والآخر بالقومية..."
لابد من منهج إيماني لتحقيق معاني الأخوة والاتحاد بين أبناء الصحوة
"
لقد بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الأمة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا من كان على مثل ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام -رضي الله عنهم-، وأوضح أنه لا تزال طائفة من الأمة ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، فكن واحداً من هؤلاء الذين ينفون عن دين الله تحريف الغالين وانتحال الجاهلين وتأويل المبطلين.
لقد كان الخوارجُ نقمةً على هذه الأمة في الوقت الذي كانت تواجه فيه فارس والروم، وقد قاتلهم علي -رضي الله عنه-، وقال عندما رآهم صرعى: "بؤساً لكم قد ضركم من غركم، قالوا: ومن غرهم يا أمير المؤمنين؟ قال: الشيطان وأنفس أمارة بالسوء سولت لهم المعاصي ونبأتهم أنهم ظاهرون".
وتعلمون فعل الصوفية بشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، وفتح الشيعة أبواب بغداد لهولاكو، فالوحدة مع أمثال هؤلاء مآلها إلى فرقة، والتكثُّر بهم ضعف.
نعم بعض الشر أهون من بعض، ولكن أنت في السعة، ولابد من الأخذ بأسباب القوة الحقيقية والتركيز على دعوة التوحيد، فكلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة، ووحدة الفكر قبل وحدة العمل، ونظرة سريعة على أحوال أفغانستان بعد قتال الروس تذكرك بقيمة ما نقول والشواهد كثيرة، قال -تعالى-: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)(الأنعام:1).
فالظلمات جمع ظلمة، والنور مفرد، الباطل كثير لا ينحصر، وما الحق إلا واحد، فاعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف من أتاه، واسلك طريق الهدى ولا يضرك قلة السالكين وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين، واعلم أن كل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف، وما لم يكن يومئذ ديناً فليس باليوم دينا، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
ولا تلتفت لمن يعتبر غرس العقيدة والتركيز على معاني الإيمان يفرق الأمة ويشتت جمعها!! فالناس إن لم يجمعهم الحق شعبهم الباطل، وإن لم توحدهم عبادة الله مزقتهم عبادة الشيطان، وإن لم يستهوهم نعيم الآخرة تناطحوا على متاع الدنيا الزائل، قال -تعالى-: (لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ)(النساء:84).
وأنت لا تطالب أن تكون كالشمعة تنير لغيرك الطريق وتحترق أنت، بل سعيك لرأب الصدع وتحقيق معنى الأخوة، إنما هو بمثابة طلب طاعة لنجاة النفس وسعادتها في العاجل والآجل، ونحن لا ننشد وحدة بخسارة الآخرة، فلا تعط الناس رُخَصاً من جيبك الخاص، ولا تجعل الحرام حلالاً لتكثير العدد، ولا تتبع زلات العلماء لتأليف القلوب؛ فالغاية لا تبرر الوسيلة، ومن تتبع رخص المذاهب تجمع فيه الشر كله، فكيف بمن تتبع زلات العلماء؟!
وأنت على ثغر من ثغور الإسلام؛ فاحذر أن يؤتى الإسلام من قِبَلك!، والأخوة والوحدة لا تتم بمجرد الكلام، بل لا بد من عمل وسلوك، والدعوة بالسلوك أبلغ من الدعوة بالقول، وترك كل واحد منا للبدع والمعاصي مما يعين على تحقيق هذه المطالب الكبيرة، فواحد في الجيش يفسد تدبيره فكيف بألف؟! والثقب في قعر السفينة يساوي قبراً في قعر المحيط، وعدم تسوية الصفوف والصلاة يترتب عليه اختلاف القلوب والوجوه، فكيف يستهان بعقيدة تخالف أهل السنة والجماعة؟!"
الناس إن لم يجمعهم الحق شعبهم الباطل، وإن لم توحدهم عبادة الله مزقتهم عبادة الشيطان
"
قال -تعالى-: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ)(آل عمران:106). قال العلماء: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والافتراق".
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (والذي نفسي بيده ما تواد اثنان فيفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما) رواه أحمد، وصححه الألباني، فقل: أنا ذلك العبد المذنب المسيء حقي لأخي، والله أنا كنت أظلم.
كان الإمام الشافعي -رحمه الله- قد اختلف مع بعض إخوانه، فلقيه في الطريق فأخذ بيده وقال: "أما يليق وإن اختلفنا أن نبقى إخوانا"، وقال: "ما ناظرت أحداً إلا وأحببت أن يجري الحق على لسانه"، وقال: "معي صواب يحتمل الخطأ، ومع خصمي خطأ يحتمل الصواب".
يا ليتك وأنت تسعى لتوحيد كلمة المسلمين أن تفرق بين ما يسوغ وما لا يسوغ الخلاف فيه، وما كل خلاف جاء معتبراً، هناك خلاف لا يفسد للود قضية كالخلاف في قصر الصلاة في السفر، وحكم تغطية الوجه والكفين...
وأما خلافنا مع الشيعة في سب الصحابة وقولهم بعصمة الأئمة، والخوارج في التكفير بالكبيرة، والصوفية في صرف العبادة للمقبور، والمرجئة في تأخير العمل، والمعتزلة في تقديم العقل على النقل، فهذا الخلاف غير منجبر.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: "نعم من خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة خلافاً لا يعذر فيه فهذا يُعامل بما يُعامل به أهل البدع".
وقد كان أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- يتناظران في المسألة لا يقصدان إلا الخير، واختلفت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- مع معاوية -رضي الله عنه- في هل رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- ربه ليلة أسري به أم لا؟
واختلف قول الإمام أحمد مع الشافعي -رحمهما الله- في تكفير تارك الصلاة تكاسلاً.
حدث ذلك مع بقاء الأخوة الإيمانية، فإذا كان كلما اختلف مسلمان في مسألة تقاطعا وتدابرا لم تبق أخوة إيمانية، ففرق بين ما يسوغ وما لا يسوغ الخلاف فيه، واجعل القطيعة والهجر طلبا للعلاج لا للبتر ولا للإهلاك، فلا تزيد في الكيفية أو الكمية فتهلك صاحبك.
وقد كان من مذهب عمر وأبي الدرداء -رضي الله عنهما-، وإبراهيم النخعي -رحمه الله-، أنك لا تهجر أخاك عند المعصية، فإن الأخ يعوج مرة ويستقيم أخرى، نحن لا نتعامل مع ملائكة أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع.
ولذلك كان لا بد من كظم الغيظ، والعفو عن الناس، واحتمال زلات الإخوان، وأن تأتي لهم ما تحب أن يأتوك به. قيل للفضيل: "ما الفتوة؟ قال: الصفح عن عثرات الإخوان"، ومن صدق في أخوة أخيه قََبِِل عِلَلَه، وسد خَلَلَه، وغفر زَلَله.
وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أحبُ إخواني إليَّ أخٌ، إن غبت عنه عذرني، وإن جئتُه قَبِلَنِي"، واعلم أن الأخوة الخاصة لا تمنع من الأخوة العامة؛ فـَرُدَّ السلام، وشَمِّتْ العاطس، وعُدْ المريض، واتْبَعْ الجنازة، وابْذُل النصيحة لأهلها، وكُنْ على بصيرة من أمرك وأمر الناس."
لا تجعل الحرام حلالاً لتكثير العدد، ولا تتبع زلات العلماء لتأليف القلوب
"
واعلم أنه لن يتأتى لك ذلك إلا بعلم وعمل ودعوة إلى الله -تعالى-، فتعلم ما تؤدي به الحقوق لأصحابها وتكون به على تقوى لله في السر والعلن، والغضب والرضا، تعرَّفْ على قيمة الأخوة الإيمانية والوحدة الإسلامية والأصول والضوابط التي تحقق ذلك، حتى لا تصبح المسائل عبارة عن مجرد حماسة أو عاطفة، وتابِعْ العلمَ النافعَ بعملٍ صالح، فالسلوك مرآة الفكر، والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل.
قال عمر -رضي الله عنه-: "إذا رزقك الله مودة امرئ فتشبث بها"، وركز في دعوتك على بوابات الخير ومن جملتها معنى الأخوة.
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا وإذا افترقن تكسرت أحادا
والجماعةُ رحمةٌ، والفُرْقَةُ عذابٌ، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، والإنسان بإخوانه كثير وبنفسه قليل وإن كان عبقريا، لا بد من تذكرة النفس والدنيا بالسنن الشرعية والسنن الكونية، فقد آخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار، وبين الأوس والخزرج، كما آخى بين كل اثنين كمعاذ بن جبل وابن مسعود -رضي الله عنهما-، وسلمان وأبي الدرداء -رضي الله عنهما-، وأنت ترى النمل والنحل يعتمل عمل الفريق، ونحن لا نستخلص العسل من الملكات فقط، فإن وضعت في المقدمة أو المؤخرة فلا تأبَهْ، وتعامل مع الله -عز وجل-، وأحسن المسير إليه -سبحانه وتعالى-.
ومن نظر إلى أنه مكلف، وأن الخطاب يتوجه إليه قبل غيره، سعى في إقامة الأخوة الإيمانية والوحدة الإسلامية، سواء سارع الآخرون في ذلك أو قصروا، فكل امرئ بما كسب رهين، وهذه الطاعة سالمة عن كل معارضة؛ فإن لم تكن بانياً لقلاع الأخوة فلا تكن هادما لها، وإن لم تكن لبنة عاملة في صرح بناء الوحدة الإسلامية، فلا أقل من دعوات صالحات عسى ربنا أن يؤلف بين قلوبنا، ويوحد صفوفنا، ويجعل بأسنا على عدوه وعدونا.
فارفع أكف الضراعة، وتـَحَيّن أوقات الإجابة، وألِحَّ على الله بالطلب ولا تعجل، وقد كان عمر -رضي الله عنه- يقول: "إني لا أحمل هَمَّ الإجابة ولكن أحمل هَمَّ الدعاء، فإن العبد إذا ألهم الدعاء فإن الإجابة معه"، (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)(غافر:60).
إن دورك عظيم في تحقيق معنى الأخوة الإيمانية فتحمل الأمانة وأدِ الرسالة، واستعن بالله ولا تعجز، وقل: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)(طـه:84).
وفقك الله، وأعانك على فعل الخيرات وترك المنكرات، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
www.salafvoice.comموقع صوت السلف