التحفة العراقية في الاعمال القلبية تأليف شيخ الاسلام تقي الدين أحمد بن تيمية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أما بعد فهذه كلمات مختصرة في أعمال القلوب التي تسمى المقامات والأحوال وهي من أصول الايمان وقواعد الدين مثل محبة الله ورسوله والتوكل على الله وإخلاص الدين له والشكر له والصبر على حكمه والخوف منه والرجاء له وما يتبع ذلك اقتضى ذلك بعض من أوجب الله حقه من أهل الإيمان واستكتبها وكل منا عجلان فأقول هذه الأعمال جميعها واجبة على جميع الخلق المأمورين في الأصل باتفاق أئمة الدين والناس في هذا على ثلاث درجات كما هم في أعمال الأبدان على ثلاث درجات ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات فالظالم لنفسه العاصي بترك مأمور وفعل محظور والمقتصد المؤدي الواجبات والتارك المحرمات والسابق بالخيرات المتقرب بما يقدر عليه من واجب ومسنون والتارك للمحرم والمكروه وإن كان كل من المقتصد والسابق قد تكون له ذنوب تمحى عنه بتوبة والله يحب التوابين ويحب المتطهرين إما بحسنات ماحية وإما بمصائب مفكرة وإما بغير ذلك وكل من الصنفين المقتصدين والسابقين من أولياء الله الذي ذكرهم في كتابه يونس فأولياء الله هم المؤمنون المتقون ولكن ذلك ينقسم إلى عام وهم المقتصدون وخاص وهم السابقون وإن كان السابقون هم أعلى درجات كالأنبياء والصديقين وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم القسمين في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يقول الله من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعل ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته
ولا بد له منه وما الظالم لنفسه من أهل الإيمان ففيه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه كما معه من ضد ذلك بقدر فجوره فالشخص الواحد قد تجتمع فيه الحسنات المقتضية للثواب والسيئات المقتضية للعقاب حتى يمكن أن يثاب ويعاقب وهذا قول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة الإسلام وأهل السنة والجماعة الذين يقولون إنه لا يخلد في النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان وأما القائلون بالتخليد كالخوارج أو المعتزلة القائلين أنه لا يخرج من النار من دخلها من أهل القبلة وأنه لا شفاعة للرسول ولا لغيره في اهل الكبائر لا قبل دخول النار ولا بعدها فعندهم لا يجتمع في الشخص الواحد ثواب وعقاب وحسنات وسيئات بل من اثيب لا يعاقب ومن عوقب لم يثب ودلائل هذا الأصل من الكتاب والسنة وإجماع الأمة كثير ليس هذا هو موضعه قد بسطناه في موضعه وينبني على هذا أمور كثيرة ولهذا من كان معه إيمان حقيقي فلا بد أن يكون معه من هذه الأعمال بقدر إيمانه وإن كان له ذنوب كما رواه البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا كان يسمى حمارا وكان يضحك النبي صلى الله عليه وسلم وكان يشرب الخمر ويجلده النبي صلى الله عليه وسلم فأتى به مرة فقال رجل لعنه الله ما أكثر ما يؤتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله فهذا بين أن المذنب بالشراب وغيره قد يكون محبا لله ورسوله وحب الله رسوله أوثق عرى الإيمان كما أن العابد الزاهد قد يكون لما في قلبه من بدعة ونفاق مسخوطا عند الله ورسوله من ذلك الوجه كما استفاض في الصحاح وغيرها من حديث علي بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم انه ذكر الخوارج فقال يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قارءتهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد وهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بأمر النبي وقال النبي فيهم في الحديث الصحيح تمرق مارقة على خير فرقة من المسلمين يقتلهم أدنى الطائفتين ولهذا قال أئمة المسلمين كسفيان الثوري أن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية لأن البدعة لا يتاب منها والمعصية يتاب منها ومعنى قولهم أن البدعة لا يتاب منها أن المبتدع الذي يتخذ دينا لم يشرعه الله ورسوله قد زين له سوء عمله فرآه حسنا فهو لا يتوب
ما دام يراه حسنا لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيء ليتوب منه أو أنه ترك حسنا مأمورا به أمر إيجاب أو أمر استحباب ليتوب ويفعله فما دام يرى فعله حسنا وهو سيء في نفس الأمر فإنه لا يتوب ولكن التوبة ممكنة وواقعه بأن يهديه الله ويرشده حتى يتبين له الحق كما هدى سبحانه وتعالىمن هدى من الكفار والمافقين وطوائف أهل البدع والضلال وهذا يكون بأن يتبع من الحق ما علمه فمن عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم كما قال تعالى محمد والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم وقال النساء ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثيبتا وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما وقال تعالى الحديد يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به وقال تعالى البقرة الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور وقال تعالى المائدة قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام الآية وشواهد هذا كثيرة في الكتاب والسنة وكذلك من أعرض عن اتباع الحق الذي يعلمه تبعا لهواه فإن ذلك يورثه الجهل والضلال حتى يعمى قلبه عن الحق الواضح كما قال تعالى الصف فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم الآية وقال تعالى البقرة في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا وقال تعالى الأنعام وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم الآية وهذا استفهام نفي وإنكار أي وما يدريكم أنها إذا جاءت لا يؤمنون وإنا نقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة على قراءة من قرأ إنها بالكسر تكون جزما بأنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ولهذا قال من قال من السلف كسعيد بن جبير إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها وإن من عقوبة السيئة السيئة بعدها وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا فأخبر النبي أن الصدق يستلزم البر وأن الكذب يستلزم الفجور وقد قال تعالى الانفطار
إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم ولهذا كان بعض المشايخ إذا أمر متبعيه بالتوبة وأحب أن لا ينفر ويتعب قلبه أمره بالصدق ولهذا يكثر في كلام مشايخ الدين وأئمته ذكر الصدق والإخلاص حتى يقولون قل لمن لا يصدق لا يتبعني ويقولون الصدق سيف الله في الأرض ما وضع على شيء إلا قطعه ويقول يوسف بن اسباط وغيره ما صدق الله عبد إلا صنع له وأمثال هذا كثير والصدق والإخلاص هما تحقيق الإيمان والإسلام فإن المظهرين الإسلام ينقسمون إلى مؤمن ومنافق فالفارق بين المؤمن والمنافق هو الصدق كما في قوله الحجرات قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا إلى قوله إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون وقال تعالى الحشر للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون فأخبر أن الصادقين في دعوى الإيمان هم المؤمنون الذين لم يتعقب إيمانهم به وجاهدوا في سبيله بأموالهم وأنفسهم وذلك أن هذا هو العهد المأخوذ على الأولين والآخرين كما قال تعالى آل عمران وإذ اخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري الآية قال ابن عباس ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته ليؤمنن به ولينصرنه وقال تعالى الحديد لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوى عزيز فذكر تعالى أنه أنزل الكتاب والميزان وأنه أنزل الحديد لأجل القيام بالقسط وليعلم الله من ينصره ورسله ولهذا كان قوام الدين بكتاب يهدي وسيف ينصر وكفى بربك هاديا ونصيرا والكتاب والحديد وإن اشتركا في الإنزال فلا يمنع أن يكون أحدهما نزل من حيث لم ينزل الآخر حيث نزل الكتاب من الله كما قال تعالى أول الزمر تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم وقال تعالى أول هود كتاب احكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير وقال النمل وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم والحديد أنزل من الجبال التي يخلق فيها وكذلك وصف الصادقين في دعوى البر الذي هو جماع الدين في قوله البقرة ليس البر أن تولوا
وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين إلى قوله أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون وأما المنافقون فوصفهم بالكذب في آيات متعددة كقوله البقرة في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون وقوله أول المنافقون إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون وقال التوبة فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ونحو ذلك من القرآن كثير ومما ينبغي أن يعرف أن الصدق والتصديق يكون في الأقوال والأعمال كقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح كتب على ابن آدم حظه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة فالعينان تزنيان وزناهما النظر والأذنان تزنيان وزناهما السمع واليدان تزنيان وزناهما البطش والرجلان تزنيان وزناهما المشي والقلب يتمنى ويشتهي والفرج يصدق ذلك ويكذبه ويقال حملوا على العدو حملة صادقة إذا كان إرادتهم القتال ثابتة صادقة ويقال فلان صادق الحب والمودة ونحو ذلك ولهذا يراد بالصادق الصادق في إرادته وقصده وطلبه وهو الصادق في عمله ويريدون الصادق في خبره وكلامه والمنافق ضد المؤمن الصادق وهو الذي يكون كاذبا في خبره أو كاذبا في عمله كالمرائي في عمله قال الله تعالى النساء إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس الآيتين وأما الإخلاص فهو حقيقة الإسلام إذ الإسلام هو الاستسلام لله لا لغيره كما قال تعالى الزمر ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان الآية فمن لم يستسلم له فقد استكبر ومن استسلم لله ولغيره فقد أشرك وكل من الكبر والشرك ضد الإسلام والإسلام ضد الشرك والكبر وذلك في القرآن كثير ولهذا كان الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وهي متضمنة عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه وهو الإسلام العام الذي لا يقبل الله من أحد من الأولين والآخرين دينا سواه كما قال تعالى آل عمران ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين وقال آل عمران شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلام وهذا الذي ذكرنا مما يبين
أن أصل الدين في الحقيقة هو الأمور الباطنة من العلوم والأعمال وأن الأعمال الظاهرة لا تنفع بدونها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده الإسلام علانية والإيمان في القلب ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم الحلال بين والحرام بين وبين ذلك امور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لعرضه ودينه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه ألا وإن لك ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد وهي القلب وعن أبي هريرة قال القلب ملك والأعضاء جنوده فإذا طاب الملك طابت جنوده وإذا خبث خبثت جنوده فصل وهذه الأعمال الباطنة كمحبة الله والإخلاص له والتوكل عليه والرضا عنه ونحو ذلك كلها مأمور بها في حق الخاصة والعامة لا يكون تركها محمودا في حال واحد وإن ارتقى مقامه وأما الحزن فلم يأمر الله به ولا رسوله بل قد نهى عنه في مواضع وإن تعلق أمر الدين به كقوله تعالى آل عمران ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين وقوله النحل ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون وقوله التوبة إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا وقوله يونس ولا يحزنك قولهم وقوله الحديد لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم وأمثال ذلك كثيرة وذلك أنه لا يجلب منفعة ولا يدفع مضرة ولا فائدة فيه ومالا فائدة فيه لا يأمر الله به نعم لا يأثم صاحبه إذا لم يقترن بحزنه محرم كما يحزن على المصائب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله لا يؤاخذ على دمع العين ولا حزن القلب ولكن يؤاخذ على هذا ويرحم وأشار بيده إلى لسانه وقال تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضى الرب ومنه قوله تعالى يوسف فتولى عنهم وقال يا أسفي على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم وقد يقترن بالحزن ما يثاب صاحبه عليه ويحمد عليه ويكون محمودا من تلك الجهة لا من جهة الحزن كالحزين على مصيبة في دينه وعلى مصائب المسلمين عموما فهذا يثاب على ما في قلبه من حب الخير وبغض الشر وتوابع ذلك ولكن الحزن على ذلك إذا أفضى إلى ترك مأمور من الصبر والجهاد وجلب منفعة ودفع مضرة
منهى عنها وإلا كان حسب صاحبه رفع الإثم عنه من جهة الحزن وأما إن أفضى إلىضعف القلب واشتغاله به عن فعل ما أمر الله ورسوله به كان مذموما عليه من تلك الجهة وإن كان محمودا من جهة أخرى وأما المحبة لله والتوكل والإخلاص له ونحو ذلك فهذه كلها خير محض وهي حسنة محبوبة في حق كل النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ومن قال إن هذه المقامات تكون للعامة دون الخاصة فقد غلط في ذلك إن أراد خروج الخاصة عنها فإن هذه لا يخرج عنها مؤمن قط وإنما يخرج عنها كافر ومنافق وقد تكلم بعضهم بكلام بينا غلطه فيه وأنه تقصير في تحقيق هذه المقامات من مدة وليس هذا موضعه ولكن هذه المقامات ينقسم الناس فيها إلى خصوص وعموم فللخاصة خاصها وللعامة عامها مثال ذلك أن هؤلاء قالوا إن التوكل مناضلة عن النفس في طلب القوت والخاص لا يناضل عن نفسه وقالوا المتوكل يطلب بتوكله أمرا من الأمور والعارف يشهد الأمور بفروغه منها فلا يطلب شيئا فيقال أما الأول فإن التوكل أعم من التوكل في مصالح الدنيا فإن المتوكل يتوكل على الله في صلاح قلبه ودينه وحفظ لسانه وإرادته وهذا أهم الأمور إليه ولهذا يناجي ربه في كل صلاة بقوله إياك نعبد وإياك نستعين كما في قوله هود فاعبده وتوكل عليه وقوله هود و الشورى عليه توكلت وإليه أنيب فهو قد جمع بين العبادة والتوكل في عدة مواضع لأن هذين يجمعان الدين كله ولهذا قال من قال من السلف إن الله جمع الكتب المنزلة في القرآن وجمع علم القرآن في المفصل وجمع علم المفصل في فاتحة الكتاب وجمع علم فاتحة الكتاب في قوله إياك نعبد وإياك نستعين وهاتان الكلمتان الجامعتان اللتان للرب والعبد كما في الحديث الصحيح الذي في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يقول الله سبحانه قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول العبد الحمد لله رب العالمين يقول الله حمدني عبدي يقول العبد الرحمن الرحيم يقول الله أثني على عبدي يقول العبد مالك يوم الدين يقول الله مجدني عبدي يقول العبد إياك نعبد وإياك نستعين يقول الله فهذه الآية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل يقول العبد اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين يقول الله فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل
فالرب سبحانه له نصف الثناء والخير والعبد له نصف الدعاء والطلب وهاتان جامعتان ما للرب سبحانه وما للعبد فإياك نعبد للرب وإياك نستعين للعبد وفي الصحيحين عن معاذ رضي الله عنه قال كنت رديفا للنبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد قلت الله ورسوله اعلم قال حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به والعبادة هي الغاية التي خلق الله لها العباد من جهة أمر الله ومحبته ورضاه كما قال تعالى الذاريات وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وبها أرسل الرسل وأنزل الكتب وهي اسم يجمع كمال الذل ونهايته وكمال الحب لله ونهايته فالحب الخلي عن ذل والذل الخلي عن حب لا يكون عبادة وإنما العبادة ما يجمع كمال الأمرين ولهذا كانت العبادة لا تصلح إلا لله وهي وإن كانت منفعتها للعبد والله غني عنها فهي له من جهة محبته لها ورضاه بها ولهذا كان الله أشد فرحا بتوبة العبد من الفاقد لراحلته عليها طعامه وشرابه في ارض دوية ملهكة إذا نام آيسا منها ثم استيقظ فوجدها فالله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته وهذا يتعلق به أمور جليلة قد بسطناها وشرحناها في غير هذا الموضع والتوكل والاستعانة للعبد لأنه هو الوسيلة والطريق الذي ينال به مقصوده ومطلوبه من العبادة فالاستعانة كالدعاء والمسألة وقد روى الطبراني في كتاب الدعاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقول الله يا ابن آدم إنما هي اربع واحدة لي وواحدة لك وواحدة بيني وبينك وواحدة بينك وبين خلقي فأما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئا وأما التي هي لك فعملك أجازيك به أحوج ما تكون إليه وأما التي بيني وبينك فمنك الدعاء وعلى الاجابة وأما التي بينك وبين خلقي فأت للناس ما تحب أن يأتوا إليك وكون هذا لله وهذا للعبد هو اعتبار تعلق المحبة والرضاء ابتداء فإن العبد ابتداء يحب ويريد ما يراه ملائما له والله تعالى يحب ويرضى ما هو الغاية المقصودة في رضاه وحبه الوسيلة تبعا لذلك وإلا فكل مأمور به فمنفعته عائدة على العبد وكل ذلك يحبه الله ويرضاه وعلى هذا فالذي ظن أن التوكل من المقامات العامة ظن أن التوكل لا يطلب به إلا حظوظ الدنيا وهو غلط بل التوكل في الأمور الدينية أعظم وأيضا التوكل في الأمور الدينية التي لا تتم الواجبات والمستحبات إلا بها والزاهد فيها زاهد فيما يحبه الله ويأمر به ويرضاه والزهد المشروع هو ترك الرغبة فيما لا ينفع في الدار الآخرة وهو فضول المباح التي لا يستعان بها على طاعة الله كما أن الورع المشروع هو ترك ما قد يضر في الدار الآخرة وهو ترك المحرماتالفاسدة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا غم ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها خطاياه وذلك تحقيق لقوله النساء من يعمل سوءا يجز به
والشبهات التي لا يستلزم تركها ترك ما فعله أرجح منها كالواجبات فأما ما ينفع في الدار الآخرة بنفسه أو على ما ينفع في الدار الآخرة فالزهد فيه ليس من الدين بل صاحبه داخل في قوله تعالى المائدة يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين كما أن الاشتغال بفضول المباحات هو ضد الزهد المشروع فإن اشتغل بها عن واجب او بفعل محرم كان عاصيا وإلا كان منقوصا عن درجة المقربين إلى درجة المقتصدين وأيضا فالتوكل هو محبوب لله مرضى مأمور به دائما وما كان محبوبا لله مرضيا مأمورا به دائما لا يكون من فعل المقتصدين دون المقربين فهذه ثلاثة أجوبة عن قولهم المتوكل لا يطلب حظوظه وأما قولهم الأمور قد فرغ منها فهذا نظير ما قاله بعضهم في الدعاء أنه لا حاجة إليه لأن المطلوب إن كان مقدرا فلا حاجة إليه وإن لم يكن مقدرا لم ينفع وهذا القول من أفسد الأقوال شرعا وعقلا وكذلك قول من قال التوكل والدعاء لا يجلب به منفعة ولا يدفع به مضرة وإنما هو عبادة محضة وإن حقيقة التوكل بمنزلة حقيقة التفويض المحض وهذا وإن كان قاله طائفة من المشايخ فهو غلط أيضا وكذلك قول من قال الدعاء إنما هو عبادة محضة فهذه الأقوال وما أشبهها يجمعها أصل واحد وهو أن هؤلاء ظنوا أن كون الأمور مقدرة مقضية يمنع أن يتوقف على أسباب مقدرة أيضا تكون من العبد ولم يعلموا أن الله سبحانه يقدر الأمور ويقضيها بالأسباب التي جعلها معلقة بها من أفعال العباد وغير أفعالهم ولهذا كان طور قولهم يوجب تعطيل العمال بالكلية وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا مرات فأجاب عنه كما أخرجاه في الصحيحين عن عمران بن حصين قال قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم أهل الجنة من أهل النار قال نعم قالوا ففيم العمل قال كل ميسر لما خلق له وفي الصحيحين عن علي بن أبي طالب قال كنا في جنازة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس ومعه مخصرة فجعل ينكت بالمخصرة في الأرض ثم رفع رأسه وقال ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب مكانها من النار أو الجنة إلا وقد كتبت شقية أو سعيدة قال فقال رجل من القوم يا نبي الله أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل فمن كان من أهل السعادة ليكونن إلى السعادة ومن كان من أهل الشقاوة ليكونن إلى الشقاوة قال اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما أهل السعادة فييسرون للسعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون للشقاوة ثم قال نبي الله صلى الله عليه وسلم الليل فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى
فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى أخرجه الجماعة في الصحاح والسنن والمسانيد وروى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل فقيل يا رسول الله أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقي بها وتقى نتقيها أترد من قدر الله شيئا فقال هي من قدر الله وقد جاء هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث فبين صلى الله عله وسلم أن تقدم العلم والكتاب بالسعيد والشقي لا ينافي أن تكون سعادة هذا بالأعمال الصالحة وشقاوة هذا بالأعمال السيئة فإنه سبحانه يعلم الأمور على ما هي عليه وكذلك يكتبها فهو يعلم أن السعيد يسعد بالأعمال الصالحة والشقي يشقى بالأعمال السيئة فمن كان سعيدا ييسر للأعمال الصالحة والشقي يشقى بالأعمال السيئة فمن كان للأعمال السيئة التي تقتضي الشقاوة كلاهما ميسر لما خلق له وهو ما يصير إليه من مشيئة الله العامة الكونية التي ذكرها الله سبحانه في كتابه في قوله تعالى هود ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وأما ما خلقوا له من محبة الله ورضاه وهو إرادته الدينية وأمره بموجباتها فذلك مذكور في قوله الذاريات وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون والله سبحانه قد بين في كتابه في كل واحدة من الكلمات والأمر والإرادة والإذن والكتاب والحكم والقضاء والتحريم ونحو ذلك مما هو ديني موافقته لمحبة الله ورضاه وأمره الشرعي وما هو كوني موافقته لمشيئته الكونية مثال ذلك أنه قال في الأمر الديني النحل إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربي وقال تعالى النساء إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ونحو ذلك وقال في الكوني ياسين إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون وكذلك قوله الإسراء وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول على أحد الأقوال في هذه الآية وقال في الارادة الدينية البقرة يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر النساء يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم المائدة ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وقال في الإرادات الكونية البقرة ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد وقال الأنعام فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء وقال نوح عليه السلام هود ولا ينفعكم نصحي إن
اردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم وقال ياسين إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون وقال في الإذن الديني الحشر ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبأذن الله وقال في الكوني البقرة وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله وقال في القضاء الديني الإسراء وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه أي أمر وقال الكوني فصلت فقضاهن سبع سماوات في يومين وقال في الحكم الديني أول المائدة أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد وقال الممتحنة ذلكم حكم الله يحكم بينكم وقال في الكوني يوسف عن ابن يعقوب فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين وقال الأنبياء قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون وقال في التحريم الديني المائدة حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير النساء حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم الآية وقال في التحريم الكوني المائدة فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض وقال في الكلمات الدينية البقرة وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن وقال في الكونية الأعراف وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ومنه قوله صلى الله عليه وسلم المستفيض عنه من وجوه في الصحاح والسنن والمسانيد أنه كان يقول أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ومن المعلوم أن هذا هو الكوني الذي لا يخرج منه شيء عن مشيئته وتكوينه وأما الكلمات الدينية فقد خالفها الكفار بمعصيته والمقصود هنا أنه صلى الله عليه وسلم بين أن العواقب التي خلق لها الناس سعادة وشقاوة ييسرون لها بالأعمال التي يصيرون بها إلى ذلك كما أن سائر المخلوقات كذلك فهو سبحانه خلق الولد وسائر الحيوان في الأرحام بما يقدره من اجتماع الأبوين على النكاح واجتماع الماءين في الرحم فلو قال الإنسان أنا أتوكل ولا أطأ زوجتي فإن كان قد قضى لي بولد وإلا لم يوجد ولا حاجة إلى وطء كان أحمق بخلاف ما إذا وطئ وعزل الماء فإن عزل الماء لا يمنع انعقاد الولد إذا شاء الله إذ قد يخرج بغير اختياره وقد ثبت في الصحيح عن أبي سعيد الخدري قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق فأصبنا سرايا من العرب فاشتهينا النساء واشتدت علينا العزبة وأحببنا العزل فسألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال ما عليكم ألا تفعلوا فإن الله قد كتب ما هو خالق إلى يوم القيامة وفي صحيح مسلم عن جابر إن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن لي جارية هي خادمتنا وسانيتنا في النخل وأنا أطوف عليها وأكره أن تحمل فقال اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها وهذا مع ان الله سبحانه قادر على ما قد فعله من خلق الإنسان من غير أبوين كما خلق آدم ومن خلقه من أب فقط كما خلق حواء من ضلع آدم القصير ومن خلقه من أم فقط كما خلق المسيح بن مريم عليه السلام لكن خلق ذلك بأسباب أخرى غير معتادة وهذا الموضع وإن كان إنما يجحده الزنادقة المعطلون للشرائع فقد وقع في كثير من وكثير من المشايخ المعظمين يسترسل أحدهم مع القدر غير محقق لما أمر به ونهى عنه ويجعل ذلك من باب التفويض والتوكل ويجري مع الحقيقة القدرية ويحسب أن قول القائل ينبغي للعبد أن يكون مع الله كالميت بين يدي الناس يتضمن ترك العمل بالأمر والنهي حتى يترك ما أمر به ويفعل ما نهى عنه وحتى يضعف عنده النور والفرقان والذي يفرق به بين ما أمر الله به وأحبه وأرضاه وبين ما نهى عنه وأبغضه وسخطه فيسوى بين ما فرق الله بينه قال تعالى الجاثية أم حسب الذين اجترحوا السيئات ان نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون وقال تعالى القلم أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون وقال تعالى ص أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار وقال تعالى الزمر قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون وقال تعالى وما يستوى الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الاحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور وأمثال ذلك حتى يفضي الأمر بغلاتهم إلى عدم التمييز بين الأمر بالمأمور النبوي الإلهي الفرقاني الشرعي الذي دل عليه الكتاب والسنة وبين ما يكون في الوجوه من الأحوال التي تجري على أيدي الكفار والفجار فيشهدون وجه الجمع من جهة الجمع بقضاء الله وقدره وربوبيته وإرادته العامة وأنه داخل في ملكه ولا يشهدون وجه الفرق الذي فرق الله به بين أوليائه وأعدائه والأبرار والفجار والمؤمنين والكافرين وأهل الطاعة الذين أطاعوا أمره الديني وأهل المعصية الذين عصوا هذا الأمر
ويشهدون في ذلك بكلمات مجملة نقلت عن بعض الأشياخ أو ببعض غلطات بعضهم وهذا أصل عظيم من اعظم ما يجب الاعتناء به على أهل طريق الله السالكين سبيل إرادة الدين يريدون وجهه فإنه قد دخل بسبب إهمال ذلك على طوائف منهم من الكفر والفسوق والعصيان مالا يعلمه إلا الله حتى يصيروا معاونين على البغي والعدوان للمسلطين في الارض من أهل الظلم والعلو الذين يتوجهون بقلوبهم في معاونة من يهوونه من أهل العلو في الأرض والفساد ظانين أنهم إذا كانت لهم احوال أثروا بها في ذلك من أولياء الله فإن القلوب لها من التأثير أعظم مما للأبدان لكن إن كانت صالحة كان تأثيرها صالحا وإن كانت فاسدة كان تأثيرها فاسدا فالأحوال يكون تأثيرها محبوبا لله تارة ومكروها لله أخرى وقد تكلم الفقهاء على وجوب القود على من يقتل بغيره في الباطن حيث يجب القود في ذلك ويستشهدون ببواطنهم وقلوبهم الأمر الكوني ويعدون مجرد خرق العادة لأحدهم بكشف لهم أو بتأثير يوافق إرادته هو كرامة من الله له ولا يعلمون أنه في الحقيقة إهانة وأن الكرامة لزوم الاستقامة وأن الله لم يكرم عبده بكرامة أعظم من موافقته فيما يحبه ويرضاه وهو طاعته وطاعة رسوله وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه وهؤلاء هم أولياء الله الذين قال الله فيهم يونس ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون فإن كانوا موافقين له فيما أوجبه عليهم فهم من المقتصدين وإن كانوا موافقين فيما أوجبه وأحبه فهم من المقربين مع أن كل واجب محبوب وليس كل محبوب واجبا وأما ما يبتلى الله به عبده من الشر بخرق العادة أو بغيرها أو بالضراء فليس ذلك لأجل كرامة العبد على ربه ولا هوانه عليه بل قد يسعد بها أقوام إذا أطاعوه في ذلك وقد يشقى بها قوم إذا عصوه في ذلك قال الله تعالى الفجر فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن كلا ولهذا كان الناس في هذه الأمور على ثلاثة اقسام قسم ترتفع درجاتهم بخرق العادة إذا استعملوها في الطاعة وقوم يتعرضون بها لعذاب الله إذا استعملوها في معصية الله كبلعام وغيره وقوم تكون في حقهم بمنزلة المباحات والقسم الأول هم المؤمنون حقا المتبعون لنبيهم سيد ولد آدم الذي إنما كانت خوارقه لحجة يقيم بها دين الله أو لحاجة يستعين بها على طاعة الله ولكثرة اللغط في هذا الأصل نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاسترسال
مع القدر بدون الحرص على فعل المأمور الذي ينفع العبد فروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير أحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان وفي سنن أبي داود أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى على أحدهما فقال المقضي عليه حسبي الله ونعم الوكيل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يلوم على العجز ولكن عليك بالكيس فإذا غلبك أمر فقل حسبي الله ونعم الوكيل فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن أن يحرص على ما ينفعه وأن يستعين بالله وهذا مطابق لقوله إياك نعبد وإياك نستعين وقوله هود فاعبده وتوكل عليه فإن الحرص على ما ينفع العبد هو طاعة الله وعبادته إذ النافع له هو طاعة الله ولا شيء أنفع له من ذلك وكل ما يستعان به على الطاعة فهو طاعة وإن كان من جنس المباح .