شرح كتاب مدارج السالكين
الشيخ محمد حسين يعقوب
تفريغ الحلقة الثالثة
أحبتي في الله .. و أنا أحبكم في الله .. لي في البداية سؤال – أرعني قلبك يرعاك الله - :
متى كانت آخر مرة إشتاق قلبك لرؤية وجه الله الكريم ففاضت دموعك شوقاً لرؤية الله متى كان ذلك؟
أُخي و أنا أحبك في الله لعل هذا الامر لم يخطر على بالك أصلاً بالمرة إن كثرة الشكوى من قسوة القلوب و الفتور و التوبة و العودة إلى المعاصي مرة أخرى، كثرة الشكوى لها سبب و علة علتها أننا لم نفقه قضية السير إلى الله لم نتعلمها.
أيها الأخوة إننا كما تعلمنا كيف نصلي و تعلمنا كيف نصوم و تعلمنا كيف نؤدي الزكاة و تعلمنا كيف نحج فلابد أن نتعلم كيف يسير القلب إلى الله ؟
هذا العلم - علم القلوب - أيها الأخوة من العلوم الخطيرة المهمة و مع شديد الأسف أن كثيراً ممن كتبوا في هذا العلم جعلوه علم الخاصة مع أنه العلم الذي يطالب به كل إنسان.
شيخ الإسلام ابن تيمية في التحفة العراقية يقول عليه رحمة الله : (( العبادات القلبية كالحب و الخوف و الرجاء و التوكل و اليقين و الرضا و الإنابة و الإخبات و الخشية و أمثالها واجبة بأصل الشرع على جميع المكلفين كوجوب الصلاة و الصيام و الحج ))
إذن القضية يا أخوة أن هذه العبادات الإخلاص والإخبات والخشية والتوكل واليقين والمحبة والرضا والرجاء ، هذه العبادات واجبة وفرض وإذا كانت واجبة فإنها تُتعلم.
قال سبحانه و تعالى : ( وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) [النحل : 78]
إذن نحن خرجنا غُفل من بطون أمهاتنا و تعلمنا كيف نصلي وكيف نتوضأ وكيف نغتسل تعلمنا كيف نصوم وكيف نحج وكيف نزكي فلماذا لم نتعلم الإخلاص ؟! كيف نخلص ؟! كيف نتوكل على الله ؟! كثيراً ما نقول (( توكل على الله .. يا أخي توكل على الله لا تخف )) و لم نتعلم كيف نتوكل على الله ؟! كيف نخبت ؟! كيف نخشى الله ؟! كيف نحبه ؟! كيف يسير القلب إلى الله ؟!
قلت أن الآفة أن بعض الناس جعله – علم القلوب – علم الخاصة رغم أنه علم مطلوب لكل الناس كل إنسان في هذه الحياة كل مسلم يحتاج إلى هذا العلم لصحة القلب و زكاة النفس و غير ذلك من أمور كلها تكليفية في حق عامة الخلق فلذلك حلقاتنا هذه لنجعل الأمر في محله.
ثم أيها الأخوة مع شديد الأسف مضطرٌ أن أقول أن هذا العلم في مسيرته التاريخية بعد القرون الثلاثة الخيرية الصحابة و التابعين و أتباع التابعين اختلط في هذا العلم أكثر من أي علم أخر أمور جعلته كالألغاز و المقصود علم القلوب أو علم العبادات القلبية ، دخله الصوفية و جعلوا هذا العلم كالألغاز جعلت هذا العلم أحياناً كأنه شيء أخر غير العلم الشرعي غير النصوص الكتاب و السنة و جعلته أحياناً مستقل كما يسمونه علم السلوك بل جعلته أحياناً من تأليف البشر، إلهامات لها قوة الوحي في التشريع أو في التقرير.
و كل ذلك عجيب غريب في علم يجب أن يكون كبقية العلوم محرراً منقحاً على الكتاب و السنة ، إن من العجيب أن قاريء كتب هذا العلم و خصوصاً التي اختص بها الصوفية يشعر أنه أمام ألغاز أنه أمام شيء وراء النصوص و ذلك ما يضيق صدر المسلم أن يقرأ ولا يفهم شيء ، حين تقرأ مثلاً ولا أحيلك على هذه الكتب ولكن كمثال ( التنوير في إسقاط التدوير ) ماذا تعني ؟!! هذه كما ذكرت ألغاز و من ثم فإني أرفض تماماً ان أحيل أي مسلم على كتاب من كتب التصوف لا يمكن و لذلك أنا أقول أن أكثر المشتغلين بهذا العلم تصوراته قاصرة مفاهيمه ضيقة كلامهم بعيد عن الواقع عن بديهيات في الإسلام ينبغي ألا تغيب عن حس مسلم فإذا بقي هذا العلم قاصراً على هؤلاء فإن في ذلك إبقاء لشباب صحوتنا المباركة الذين يريدون السير إلى الله في أجواء غير صحية فكان لابد من دعوتنا السلفية الصافية أن تحرر هذا الموضوع - موضوع علم القلوب- أن يحرر هذا الموضوع لأنه من المواضيع التي تشكل ألف باء فهم إسلام ، لأن كل مسلم في الحقيقة سائر إلى الله طالما أنه يفعل ما أمره الله عز و جل به طالما أنه باحث عن الكمال المطلوب باحث عن الوصول إلى الفردوس باحث عن رضا ربه لكن هذا الباحث لابد أن يأتي الأمور من أبوابها من بداياتها لابد من معرفة المصادر و الموارد لابد أن يعرف كيف يرد و كيف يصدر لابد - كما أستطيع أن أسميه الآن – السير الكامل و من هنا خلط الذي لا يتصور أنه لا سير إلى الله إلا من خلال التصوف ! خطأ كبير، نحن هنا نريد أن نرد على الصوفية الذين لا يتصورون سيراً إلى الله بدون سير على يد أهل الطريق ، إن الصحابة رضوان الله عليهم و من بعدهم من هؤلاء السلف الصالحين ساروا إلى الله قبل أن تقعد قواعد علم التصوف ما كان لهم هم إلا دراسة الكتاب و السنة و تطبيق ذلك فإن لم يكن هذا سيراً فما هو السير ؟! خدعوك فقالوا : السير هو التصوف !!
وأنا أخاطب أيضاً أخواننا من أهل المنهج هذا المنهج ، المنهج السلفي الكتاب و السنة بفهم سلف الأمة ، الذين صارت عندهم حساسية بالغة التي أسميها (( أرتكاريا )) من كلمة تصوف دعك من هذه الكلمة لذلك كل المصطلحات الذي يذكرها أهل التصوف ، تسبب عندنا حرج ، فتسمع أحدهم يقول : الشيخ عنده نزعة صوفية !! لأنه يقول السير إلى الله و أحوال القلوب و الحال و المقام .. لا .. لماذا ؟!
يا أخي هذه علومنا و هؤلاء سلفنا .. قال الله تعالى : ( هَـذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا ) [يوسف : 65] ، و نحفظ ديننا و نصدق وعد ربنا ، فنحن نرد على الصوفية الذين يقولون لا سير إلى الله إلا من خلال منهج التصوف و لا سير إلى الله إلا وراء شيخ متصوف !! خطأ .. و نقول أيضاً للأخوة الذين تصوروا أن الدين علوم جامدة فحسب فليكن لهم حال مع الله و سير صحيح إلى الكمال الإنساني.
أيها الأخوة أنا أحبكم في الله نحن في عصر مادي و هذا يقتضي منا أن نقابله بفكر مكافيء و بحيوية قلبية عالية نحن في عصر شهواني جاهلي و هذا يقتضي منا أن نقابله بأشواق روحية راقية مع تأمين الشهوات المباحة و إبقاء منافذها مفتوحة.
أيها الأخوة نحن في عصر قل من يوجد فيه من يضبط نفسه على مقتضى آداب الإسلام ؟! القلب المراد ، و هذا يقتضي منا إلحاحاً على التربية القلبية والتربية الإيمانية والتربية الروحية العالية ، لابد لدعوة السلفية من دراسة هذا الموضوع فتجدد فيه معيدة إياه إلى أصوله الصحيحة - علم القلوب - و منابعه الصافية و مبعدة عنه ما علق به من دخن كبير فتوضع الأمور في مواضعها الصحيحة من هذا العلم و
غيره.
أيها الأخوة لابد من الكلام في هذا الموضوع - موضوع علم القلوب - لتحريره وتنقيحه و وضع الأمور في موضعها فيه ، فلا يكفي أن نحارب الصوفية في بدعهم و في ضلالهم وفي تحكمهم في هذا العلم ، وإنما لابد مع ذكر الخطأ ان نذكر الصواب لا يكفي أن نهدم بل علينا أن نبني ، علينا دائماً أن نقدم البديل الصالح لا البديل بل نعود إلى الأصل الصالح لنضعه مكان الخطأ خاصة إذا كان ما نحن فيه يستحيل الإستغناء عنه أو التفريط فيه أو تجاهله لابد من صيغة صحيحة بدلاً من الأساس الواهي الضعيف لابد من بيان الحق في كل أمر.
أيها الأخوة .. السير إلى الله لا يمكن أن يلغى بل يجب أن يكون حثيثاً و لكن ينبغي أن يحرر و يدقق و تحرر مسائله تحريراً دقيقاً وقد نستعمل بعض عبارات القوم و نستفيد من بعض كلام القوم ولكن كما قال أحدهم : و هو أبو سليمان قال : (( أنه ربما وقعت النكتة من كلام القوم في قلبي فلا أقبلها إلا بشاهديّ عدل من الكتاب و السنة لأن الله عز و جل ضمن لي العصمة في الكتاب و السنة و لم يضمنها لي في سوى ذلك)) ، و لذلك هذا الكلام واضح أيها الأخوة خذه مني و من غيري و طبقه عليّ و على غيري هذا منهج أيّ كلمة لابد لها من شاهديّ عدل من الكتاب و السنة لتوثق و تقبل ولذلك فسأحاول و الله المستعان ( إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) [هود : 88] في هذه الحلقات أن أضع قدم المسلم في سير صحيح إلى الله تعالى خالي من الخطأ إنني أريد أن أضعك على طريق أوله في يدي و أخره في الجنة إن شاء الله فمد يدك ، إنني سأحاول أن أنشر الطريق لإيجاد طبقة من الوُرّاث الكاملين لرسول الله صلى الله عليه و سلم يحملون دعوة الله كاملة ويربون الناس ظاهراً و باطناً على الحق فإن أصبت في ذلك فلله الحمد و إن أخطأت فإني أستغفر الله و نحن على إستعداد للرجوع إلى الحق من أي احد يبذله كائناً من كان.
أيها الأحبة أردت أن آخذ على عاتقي أن آخذ بأيديكم إلى طريق أوله في أيدينا و أخره في الجنة كان من إجتهادنا في ذلك إختيار كتاب ( مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد و إياك نستعين ) ، إستعملت تهذيب مدارج السالكين للشيخ العزي و أنقل الآن كلامه لأني أوافقه بالحرف.
(( نقدم هذا الكتاب إلى شباب الإسلام عنوانا للمساهمة في تنميتي العملية التربوية و لا يعرف قيمة المدارج حق معرفتها إلا من درج و كتاب الإمام ابن القيم هذا عمل فذ غزير المنفعة بليغ العبارة فيه من دقة إستخراج المعاني الإيمانية و لطف الإشارات القلبية ما ليس في غيره ، المدارج نتاج تأملات أيام عوالي في حياة شيخ الإسلام ابن القيم الأصل الذي حكم ترتيب كلام ابن القيم هو كتاب منازل السائرين لشيخ الإسلام الهروي ))
هنا أخي الحبيب .. أنا أحبك في الله .. لا تفاجأ أنني دخلت في الموضوع مباشرة وإنما أقول أننا اخترنا كتاب ( مدارج السالكين ) ، ولابد أن تعرف الكتاب الذي سنشرحه و هو كتاب لابن القيم كتاب قيم عظيم جداً أصل كتاب ابن القيم هو كتاب لأبي إسماعيل الهروي المتوفى سنة 481 هـ من أهل القرن الخامس ، ابو إسماعيل الهروي الحنبلي قسم طريق سير المؤمن إلى الله تعالى إلى مئة منزل و هذا هو أصل الموضوع.
أخوتي أنا أحبكم في الله ، إنسان مسافر لإلى بلد ما فلابد له أن يعرف الطريق حتى يصل ،أخوتي أريد أن أوضح تحديداً أن على هذا الطريق منارات وعلامات وإشارات تدلك و أنت تسير في الطريق إن كنت تسير في الطريق الصحيح فيجب عليك أن ترى هذه المنارات و العلامات و إن لم تراها فأنت لست على الطريق الصحيح الذي نعرفه !!
فهب أن إنساناً سافر من القاهرة إلى الأسكندرية على الطريق الزراعي فيجب عليه أن يمر على كوبري قليوب ثم كوبري قها ثم كوبري طوخ ثم كوبري بنها ... إلخ ، فلو سار هذا الإنسان في هذا الطريق و رأى هذه المعالم على ترتيبها إذن هو على الطريق الصحيح ، أما لو وجد مثلاً و هو يسير في الطريق القناطر !! إذن هو ليس في الطريق الصحيح .. اتفهمني ؟!
ولذلك فإن القضية قضية أن شخص سار على الطريق و بعد أن وصل أخذ يصف لنا هذا الطريق يخبرنا بأنك عندما ستسير في هذا الطريق ستجد كذا و كذا ... إلخ و هذه هي المنازل المئة التي قسمها أبو إسماعيل الهروي ، و شرحها شيخ الإسلام ابن القيم.
هنا الشيخ العزي يقول : (( هي مثل محطات التزود في أي طريق طويل ، أو هي منازل طبقية و درجات صعود و مدارج إنطلاق تتوازى و تتابع )).
فهي كالدرج ، ففي البداية سنذكر أربعة منازل أساسية و هي : اليقظة و البصيرة و الفكرة و العزم، إذت فإن أول درجة هي اليقظة ثم البصيرة ثم الفكرة ثم العزم و بهذا قد صعدت أربع درجات على هذا الدرج ، هذه هي قضية المنازل.
يأتي الآن أخ سلفي يقول : ((إنتوا جبتوا الكلام ده منين مهو النبي صلى الله عليه و سلم مقالش المئة منزل و الصحابة معملوش مئة منزل)) ، نعم لم يذكر الصحابة هذا ، لكن كما ذكرت لك أي كلمة لا يوجد عليها دليل من الكتاب و السنة إتركها فلا داعي لها ، و لذلك المنازل هي مجرد وصف للطريق لأني كما قلت لكم من قبل أن الصحابيّ كان يسمع من سيدنا النبي صلى اله عليه و سلم سورة ق على المنبر تكفيه موعظة لأسبوع أما اليوم !! إن قرأنا سورة ق من سينتفع بها ؟! يجب عليّ أن أشرح ، كنت بالأمس أشرح اسم الله المجيد ، من منّا يعرف اسم الله المجيد ؟! من فكّر في اسم الله المجيد ؟! فمن كثرة سماع اسم عبد المجيد أصبح الأمر عندنا عادي.
الشاهد أن هذه الطبقات أو المنازل أو المدارج ، إنما هي وصف للطريق الذي سوف تسير عليه.
وجعل لكل منزلة مفهوماً و حداً ، كمثال : اليقظة ، ما هي اليقظة ؟ هي انزعاج القلب لروعة الإنتباه من رقدة الغافلين .. ما معنى هذا الكلام ؟ سنشرح إن شاء الله لكن القصد أن الشيخ جعل لها مفهوم و حد ، و جعل للمنزلة ثلاث درجات واحدة تليق بعامة المسلمين و أخرى لخاصة المؤمنين و ثالثة للمحسنين للمقربين.
هنا الشيخ إضطر من أجل وصف هذه المنازل بالطبقات التلاتة أن يحصل نوع من أنواع التكلف المعنوي و اللفظي الذي تأباه طبيعة السكينة الإيمانية ، إني أريد أن أعطيك كلام يعلي إيمانياتك ، أريد أن أعطيك كلام يرق به قلبك ، أريد أن أعطيك كلام يزيد به إيمانك ، فأنا لن أجلس و أعطيك (رصة) كلام و إنما سنشرح ونوضح ونصف ونحن في القرن الخامس عشر الهجري أريد أن أخبرك و أقول لك كيف تصل إلى الله ؟!
فلذلك متابعة ابن القيم للهروي لم تكن هدف لابن القيم ومتابعتنا للشيخين ليست هدف و إنما أصل سنسير عليه .
انتظر معنا المرة القادمة أسأل الله عز و جل أن يرزقني و إياكم الإخلاص في القول و العمل
أحبكم في الله
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته